04/12/2020 - 20:27

حوار | أشرف إبريق: الأبحاث معازل قاسية وأقرأ نفسي عبر الكتابة

نحن العُلَماء قد نستصعب أي شيء دون أن نمنحه صفات إنسانية. أنا لا أرى الذرات، انا أرى فقط المنتوج النهائي، أرى المواد على المستوى الجزيئي بواسطة أجهزة

حوار | أشرف إبريق: الأبحاث معازل قاسية وأقرأ نفسي عبر الكتابة

أجري هذا الحوار في إطار "ورشة الحوار الصحافي" التي نظمها موقع "عرب 48" بالتعاون مع جمعية الثقافة العربية، مؤخرًا، وقدّمها أستاذ الإعلام في جامعة بير زيت، صالح مشارقة.


"نوتات الكيميائي" اسم كتاب برز في الأشهر القليلة الماضية، من تأليف المحاضر الأكاديمي الباحث في موضوع الكيمياء في معهد التخنيون، بروفيسور أشرف أبريق، الذي نشر، حتى الآن، أكثر من مئة وثلاثين ورقة بحثية في مجلات علمية عالمية معروفة.

لكن ما الذي جعل شخصًا ينتقل من أروقة الذرات في المختبر إلى ذرات الحبر ليخّط لنا كتابًا يحوي نصوصًا سردية تحكي لنا قصص الكيمياء المعقدة بسلاسة. كأنه يريد تطبيق مقولة الفيزيائي والتير لوين بأن من يجعل الفيزياء مادة مُملة هم مُدرّسوها وليس المادة بحد ذاتها.

نحاور الكاتب والكيميائي معًا، هنا الكتاب والتخصص العلمي والأدب الرقمي:

من أين جاءت فكرة كتاب "نوتات الكيميائي" لخبير كيمياء مثلك بعيد عن الأدب وعوالمه؟

بدأت فكرة الكتاب تترعرع في أفكاري منذ حوالي السنة فقط، ما شجّعني على الكتابة كان دخولي إلى عالم وسائل التواصل الاجتماعي، هنالك على صفحتي بدأت أنشر ما يجول في خاطري، وفي كل مرة كنت أذكر شيئًا ما يخص أبحاثي.

يزداد شعوري بالوحدة منذ دخولي مجال البحث في الكيمياء، فنحن كعلماء نعيش في عالم لوحدنا، لا يهتم أحد بأبحاثنا إلا الباحثون من نفس المجال، بينما كنت أرى عائلتي، أقربائي ومجتمعي لا يعرفونني إلا حين أربح جائزة أو تُرشّح أبحاثي لجوائز عديدة في العالم. هذا العالم الغامض من الكيمياء أو حتى البيولوجيا والفيزياء والعلوم بشكل عام ينقصه – باعتقادي - الانفتاح على عالم المشاعر والأدب.

في الجزء الأول من الكتاب الذي سميّته "ماء الحياة"، ما حاولت فعله هو تقريب القارئ إلى عالمي، عالم البحث، الاكتشافات والكيمياء. الفكرة ببساطة أن أكتب عن عالم البحث بطريقة أدبية، وأن أقوم بإضافة صبغة علمية عليه من خلال استعمال مصطلحات علميّة. حتى لو لم تُفهم هذه المصطلحات بشكل دقيق، فلها بالضرورة تأثير على توسيع تفكير الشخص، وقد تحثّه على التفكير.

في هذا الجزء استعرت مواضيع من الحياة اليومية كالقُبلة، الحب، الأدوية (كالفياغرا والميرخوانا) مواضيع لا نذكرها في مجتمعنا، وكنت أعرضها من منظار مختلف، رؤية أخرى، عن معنى خلط المواد هذا من منظار كيميائي. ما هو الحب من منظور الكيمياء، ما السر الفيزيولوجي الذي يجعل شابًّا أو صبية ينتقي شريك حياته من هذا الكم الكبير من الناس، هذا كله بصيغة أدبية.

هذه الفكرة تطوّرت مع مرور الوقت إلى مواضيع أخرى، حاولت في الفصل الذي يليه أن أقوم بردّ ما يعرف عند الناس بـ"العالِم" إلى أصله، من خلال ربطي بزملائي في العمل، والبحث، وأصدقائي على مقاعد الدراسة المدرسية والأكاديمية، ومعلمتي في فصولي المبكرة، وغيرهم الكثير. لهؤلاء الأشخاص فضل علي وباعتقادي لولاهم لما كنت أنافس الآن على جوائز علمية اليوم، هذا حقهم. إنصافهم واجب.

أمّا بالنسبة للفصل الأخير، فقصدت أن أُكذّب فيه الأسطورة المعروفة باسم البروفيسور، لا أقصد أن أنتقص منه، إنما أن أقضي على تلك الهالة التي أحاطتني بلا حق، أنا قبل كل شيء إنسان، لي مشاعري وردود فعلي، قد تجذبني رياضة ما، أو أخرى، أحيانا يتم التعامل معي كأني لا أشعر بكل هذا، وبأني البروفيسور الذي لا يجب عليه أن يكون إلا بحثه.

أفهم من ذلك أنك في هذا الفصل قمت بإعطاء جانب إنساني لنفسك نُزع منك بحكم اختيارك لمجال البحث، وأنّكَ حاولتَ أن ترد ذات "أشرف" وليس البروفيسور إلى الواقع الإنساني الاجتماعي الذي فصل منه مرغما بحكم طبيعة اختياره لطريقه. هلا تُحدثني أكثر عن السبب الذي يدفع باحثًا في الكيمياء لكتابة نصوص أدبية؟ ما الذي دفعك أنت بالتحديد لخوض هذه التجربة المغايرة؟

الكتاب
غلاف الكتاب

الكتابة هي نوع من المشاركة التي تجعلك تعرف عن نفسك أكثر قبل أن يعرف الناس عنك، في البداية كنت أريد أن أعبّر عمّا يدور في داخلي. قضيت في هذا العالم مدة طويلة من الزمن عالمي الداخلي فيها مخفٍ، بينما عالمي الخارجي الذي يتحدث عن الإنجازات والجوائز هو الظاهر للعيان، التعبير عن هذا العالم يحمل راحة ولذة، بالإضافة إلى طرق باب جديد له كان الفضل في منحي العديد من الأحاسيس الجميلة، أدخلني إلى عوالم جديدة تخص أشرف وليس البروفيسور.

أضف إلى ذلك أنّني أحببت مشاركة هذا التجربة مع المجتمع، بالأخص طلاب الجامعات والثانويات، علّها تأثر فيهم. من يبني الإنسان سوى محيطه، الكتب التي يقرأها وتجاربه؟ كنت أود أن أخذ دوري في هذا البناء.

ما أستطيع أن استنتجه من كلامك، بأن هنالك شقين للكتاب: الشق الإنساني، وشقّ البروفيسور المفصول عن مجتمعه، لهذا كنت أود أن أعرف من المُلام على هذا الفصل حسب رأيك.

الحقيقة لا أعرف كيفية الإجابة عن هذا السؤال، لكن من تجربتي أن أكثر المواقف التي تستفزني حين يخبرني أحدهم بأننّي متواضع! لست أدري ما هي الأسباب التي تجعل الناس بأن تتوقع مني ألّا أكون كذلك، هذه إسقاطات مغلوطة وقد تكون مؤذية. لماذا يتوقعون مني أن أجلس في برج عاجي، وأشاهد الناس من بعيد؟ ما الغريب في كوني أود الحديث مع الناس؟ أو أحب الحياة والعلاقات الاجتماعية؟

باعتقادي أن هنالك مشكلة في الناجحين في مجتمعنا، من يكتسب المعرفة والنجاح وضع نفسه في ذلك البرج، وهذا أحد أسباب الفصل الأساسية، بالإضافة إلى أن الناس يقومون بخلق الحواجز، لكن الشعوب الأخرى لا تتصرف بهذه الطريقة، الأغلب يستطيع الفصل بين العلاقات الشخصية وعلاقته المهنية، الأغلب يخلع زيَّ عمله في مكاتبه ويتقرب من الناس. باعتقادي أن هذا السؤال يجب أن يطرح لعلماء الاجتماع، هذا اختصاصهم.

ما الذي يقدمه العلم للأدب وما الذي يقدمه الأدب للعلم؟

انظر إلى محمود درويش في قصيدة "عينان"، كتب عن الألوان بطريقة جميلة وقدّم استعارات من خلال إحساسه وعواطفه، بينما العالم يستطيع الكتابة عن مستوى إضافي للألوان، كيفية تكوّنها مثلا. أستطيع من المعرفة التي اكتسبتها أن أدخل إلى مناحي معرفة للأسف لا يستطيع الأديب أن يتحدّث عنها، هنالك حاجز معرفيّ يوقفه، كمية الإبداع تتوافق طرديًا مع كسر الحواجز النفسية. يستطيع العالم أن يتعمّق في مستويات أخرى قد تكون منقوصة عند الأدباء، هذا جانب إضافي قد يضيفه العلم على الأدب.

أمّا بالنسبة للأدب فهو الروح، هو خليط من الأحاسيس والمعرفة والمشاعر الإنسانية، الفكر المغاير، وفلسفة المعضلات. الأدب يعطي للعلم سلاسة، تسهل علينا من خلالها رؤية العلم بجماليّة. حين أكتب للمجلّات عن الذرة أكتبها بطريقة مجرّدة خالية من المشاعر، لكن حين أكتبها للجمهور أخلق في داخلها روحًا، أمنحها جانبًا جماليًا جديدًا، لولا الأدب الذي يتحدث عن الفلسفة قد لا تكون هنالك حدود، الأدب باعتماده على الفلسفة قد يساهم في صناعة المسموح والممنوع، رغبة المعرفة التي تشد العلماء قد تعميهم، الأدب الذي يتحدث عن مشاعر الناس، أخلاقها ومتطلباتها، قد يكون هذا منارة العالم في أبحاثه ومجال معرفته.

تقول أيضا في أحد النصوص في الكتاب بأن الناس تشبه العناصر، ماذا تقصد بهذا الشيء؟

هذا النص متأثر بكتاب لبريمو ليفي اسمه "الترتيب الدوري"، في هذا الكتاب يشرح ليفي عن حياته ولكنّه دائما يقوم بإحضار المركبات ويقوم بوصف حالاته النفسية كما يحدث في المركّب بنفس اللحظة، فمن هنا كانت هذه الفكرة. أنا ككيميائي أرى العنصر وأمنحه صفات إنسانية، أقول إنّ الحديد قاسٍ ولكنه ليّن كما بعض الأشخاص تماما، أقول إنّ الذهب يلمع لكنه خامل وهذا يشبه آخرين، هنالك عناصر مفيدة لكنها لا تتفاعل، هنالك مواد لا تنتج إلا عند الضغط، والعديد من الأمثلة الأخرى، وكلها تشبه البشر، وهي صفات إنسانية.

هل تقول إنّك تمنح المركبات التي تتعامل معها صفات إنسانية لكي تقربها منك؟

طبعا، نحن العُلَماء قد نستصعب أي شيء دون أن نمنحه صفات إنسانية. أنا لا أرى الذرات، انا أرى فقط المنتوج النهائي، أرى المواد على المستوى الجزيئي بواسطة أجهزة، من دون أن أمنحها صفات من محيطي لا أستطيع الارتباط معها، إحساسي ومعرفتي الداخلية وحواسي تسهل عليّ أن أرى الطبيعة بصورة مرئية أستطيع التفاعل معها.

إلى أيّة درجة يمكن للكاتب أن يفصل نفسه عن تخصصه؟ ما أفضل للذات الكاتبة الانفصال أم الانسجام؟

لا يمكن أن يكون فصل بين الذات الكاتبة ومهنة الإنسان وعالمه، خصوصا إنسان يشبهني تدور كل حياته حول الكيمياء والمركبات وصفاتها، هذا جُل ما أفكر فيه خلال اليوم. تخيل أن تعطي نصًّا لإعادة كتابته من قبل مغنٍ، كيميائي أو رياضي، من المستحيل أن يتشابه النص عند ثلاثتهم، النص سيريك عوالم هؤلاء الأشخاص بالتأكيد.

هل ستبقى الكتابة وهل سيبقى الأدب بعد الثورات المعرفية العلمية والرقمية والمادية؟

هذا سؤال صعب، أنا شخصيا لا زلت أستمتع بالأدب، لم أصل إلى وضع أصبح فيه الأدب مملّا. يحيرني أنني لا أرى شيئا شبيها بأم كلثوم في عصرنا. نحن لم نعد نسمع عن أشياء تبهرنا بدرجات كبيرة، وكأن هذا الإبداع وصل إلى سقف قد لا يكون من السهل اختراقه، تحديدا في العالم العربي أو في العالم ككل، هل فعلا وصلنا لقمة الإبداع الفني والأدبي؟ أم هذا الكم الكبير من التغيرات في الكتابة الحديثة، الكتابات، الصور الفنية، أفقدتنا قيمة الفن؟

بكلمات أخرى، أنت تقصد بأن هذا الحجم الكبير من المعلومات التي توصلنا بهذه الكثافة، تفقدنا قيمة أن نعيش المتعة، أو الجمالية التي موجودة حولنا في هذا العالم؟

صحيح، كل لحظة تقوم بفتح الشاشة تُبْهَر بجمال معين، الجمال بحاجة أن تشتاق له، لكي تستطيع الشعور به، لكن هذا لا يحصل.

في عدّة أماكن في كتابك شدّدت على انتمائك الوطني، كيف تستطيع الموافقة بين انتمائك هذا وبين وجودك في معهد أكاديمي إسرائيلي؟ هل هذا يصعّب عليك وجودك في مكان كهذا؟

لا يوجد شك بأن هذا الأمر ليس سهلا. أقصد هنا بأن صراعك مُستمرّ دومًا، كفرد من هذه الأقلية تقوم بسؤال نفسك على الدوام، ماذا أفعل هنا؟ من أنا؟ لماذا نحن هكذا؟

بعد سنوات من البحث في الولايات المتحدة، أعادتني إلى هنا المسؤولية التي أشعرها تجاه مجتمعي، مسؤوليتي أن أؤثّر على مجتمعي قدر الإمكان. أقل ما أريده أن أفتخر بإنجازات مجتمعي، أودّ الشعور بأنّني جزء من إنجاز جماعي ولست صاحب إنجازات فردية، لهذا قد قررت بأن أعود إلى هنا.

كيف عشت تجربة التأليف واللحظات الأخيرة قبل النشر؟

من مميزاتي أنّني لا أقوم بعمل شيء ما دمت غير مولع به. الشّغف يجب أن يكون جزءًا من طريقي. لم أخطّط لكتابة كتاب في البداية، أحببت الكتابة من أجل المشاركة، وحينما وجدت في جعبتي مادة كبيرة، فكرّت بأن أفيد بها وأستفيد منها، خطرت لي الفكرة قبل سنة تقريبا. هنالك الكثير من يكتبون ويبدعون لا يكملون أعمالهم، كون الخوف بدأ يسيطر عليهم، أود أن أقول لهم لا تخافوا، طالما الشغف هو جزء منكم لا تخافوا، أنا لم أخف أن أسال عن مسار النشر، كانت تجربة غنية لي، واستمعت فيها.

ما الذي تتمناه للعلم والكتابة الفلسطينية، للعالم وللكاتب الفلسطيني، هل هي مشاريع جماعية أم فردية؟

بصراحة، أحد أهداف الكتاب هو أن أقوم بتشجيع الناس أن تخرج من الأماكن التي تتواجد بها، وتكتب، وترينا عالمها. أحبّ أن أرى عالم الأطباء من خلال عيونهم، المزارع، الطباخ، الفيزيائي وسائق التاكسي، كلهم لديهم ما يقصّوه علينا، خسارة أن يحرمونا من كل هذه العوالم الجميلة.

واجب علينا أن نحب إبداع بعضنا، ونشجّع بعضنا، هذا شيء جدا مهم، يجب علينا ألا نخاف من أن نتشابك بين مختلف مجالات المهن والإبداع. لا توجد هنالك مجتمعات ليست مبدعة، الكل يستطيع أن يكون في الطليعة، يجب علينا أن نخلق هذا البيئة لأنفسنا لنستطيع أن نستمر، وأنا فعلا أرى بوادر لتحركات علمية وثقافية وإبداعية على كافة المجالات، وهذا واحد من أهداف الكتاب، بأن أكون جزءًا من هذا الحراك. نحن بحاجة لأن نقرع البيوت والمنصات، القرى والمدن العربية، وأن نصنع هالة حول الثقافة من أجل التحفيز والإبداع عند كل شخص في مجاله، سواء على صعيد أدبي أو علمي.

التعليقات